الصحة النفسية في أوقات الأزمات

في خضمّ الأزمات والنزاعات، ينشغل الناس غالبًا بتأمين الاحتياجات المادية الأساسية: المسكن، الغذاء، الأمان… لكننا كثيرًا ما نغفل عن جانب لا يقل أهمية، بل قد يكون أكثر هشاشة: الصحة النفسية.


تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن واحدًا من كل خمسة أشخاص ممّن عاشوا أزمات أو صراعات كبرى يُعاني من اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب أو القلق أو اضطراب ما بعد الصدمة. وهذه النسبة تفوق بمرتين المعدّل العام بين السكان في الظروف الطبيعية.

وفي هذا السياق، ذكرت الجمعية الأمريكية للطب النفسي:

“للأزمات والحروب تأثيرات نفسية تتجاوز حدود الحدث الجغرافي،
وتمتد لتطال الأفراد والمجتمعات حول العالم، حتى أولئك الذين لم يعيشوها ميدانيًا.”

ما الذي يحدث لنا نفسيًا أثناء الأزمات؟

الأزمات تترك آثارًا عميقة في النفس، قد تبدأ بالصدمة أو الذهول، ثم تتدرج إلى التوتر، القلق، نوبات الغضب، أو الحزن العميق. ومن أبرز الأعراض الشائعة:

• اضطرابات في النوم
• تغيرات في الشهية
• ميل للعزلة والانطواء
• تراجع في الأداء اليومي
• شعور بالضياع أو فقدان الأمل

وغالبًا ما تُكبت هذه المشاعر دون تعبير، بسبب غياب المساحات الآمنة والداعمة.

كيف نرعى أنفسنا نفسيًا في الأوقات الصعبة؟

استنادًا إلى توصيات منظمة الصحة العالمية واليونيسف وخبراء الصحة النفسية، إليك بعض الخطوات الفعالة:

1. التمسّك بالروتين اليومي:
حتى أبسط العادات اليومية (كالنوم في وقت منتظم أو تناول وجبة متوازنة) تمنح الإحساس بالثبات والسيطرة وسط الفوضى.

2. التواصل الاجتماعي:
لا تترك نفسك وحيدًا. الحديث مع شخص مقرّب، حتى دون حلول، يخفف من وطأة التوتر.

3. تنظيم متابعة الأخبار:
التعرض المفرط للأخبار قد يزيد من القلق. خصّص وقتًا محدودًا لتتبع التطورات، ثم امنح نفسك فرصة للهدوء والانفصال.

4. الحركة الجسدية:
الرياضة، ولو خفيفة، لها أثر مباشر على التوازن النفسي. المشي، التنفس العميق، أو تمارين بسيطة تساعد في تقليل التوتر.

5. طلب الدعم دون تردّد:
إن استمرت الأعراض أو ازدادت حدة، لا تتردد في طلب المساعدة النفسية. فالتدخل المبكر يساهم في الوقاية من تفاقم الحالة.

الصحة النفسية للأطفال أثناء الأزمات

يتأثر الأطفال بالأزمات بشكل بالغ، حتى إن لم يتمكنوا من التعبير عن مشاعرهم بوضوح. قد تظهر العلامات على شكل:

• نوبات غضب أو بكاء
• صعوبة في النوم
• التبوّل اللاإرادي
• التعلّق المفرط بالأهل
• صمت غير معتاد أو انعزال

يوصي الخبراء باتباع ما يلي:

• الاستماع إلى الأطفال وتوفير إجابات صادقة ومطمئنة
• الحفاظ على روتين ثابت قدر الإمكان
• تشجيعهم على التعبير عن أنفسهم من خلال اللعب أو الرسم أو الحكايات
• الحد من تعرّضهم للمشاهد أو الأخبار الصادمة

كما تؤكد اليونيسف في أحد تقاريرها:

 

“اللعب ليس ترفًا للأطفال… بل هو وسيلة علاجية ضرورية لاستعادة الشعور بالأمان والاستقرار.”

دور "جوار" في تعزيز الحصانة النفسية

في خضم هذه التحديات، جاءت مبادرة “جوار” كمساحة مجتمعية آمنة تجمع الأفراد حول قيم الأمل والتكافل. وُلدت من رحم الأزمة، من خلال لقاءات دافئة تحت اسم “عزومة مش على الزوم”، جمعت الناس في بيوت مفتوحة للنقاش، والمحبة، وتبادل المعرفة.

تحوّلت هذه اللقاءات لاحقًا إلى إطار أوسع باسم “مجتمعي بيتي”، واستقطبت العشرات من اللقاءات في مختلف المناطق، حاملة معها رسالة بسيطة وعميقة: لسنا وحدنا. يمكن للقلق أن ينقص حين نُصغي لبعضنا، ويمكن للسلام الداخلي أن يبدأ من طبق مشترك، أو حكاية شخصية، أو حضن جماعيّ غير معلن.

في “جوار”، نعمل على تعزيز الحصانة المجتمعية، لا فقط من خلال المبادرات، بل عبر بناء شبكات إنسانية دافئة تُعيد للأفراد شعورهم بالقيمة والانتماء.

لا نجاة بلا عناية بالنفس

الصحة النفسية ليست رفاهية في وقت الأزمات، بل هي جزء أساسي من النجاة والتعافي. وتمامًا كما نبحث عن الطعام والمأوى، نحتاج أن نبحث عن السكينة، والمساحة، والكلمة الداعمة.

في “جوار”، نؤمن أن العناية بالنفس ليست أنانية، بل هي حجر الأساس للعناية بالآخرين. فحين نهتم بأنفسنا، نصبح أكثر قدرة على الوقوف بجانب من نحب، وعلى بناء مجتمع أكثر صمودًا ورحمة.

ولأننا نعلم أن الألم لا يُشفى بالصمت، وأن الخوف لا يرحل بالوحدة، خلقنا معًا أماكن صغيرة فيها دفء، حديث بسيط، ونظرة صادقة تقول: “أنا هنا… وأنت لست وحدك.”
وربما في هذه المساحات المتواضعة، تبدأ الحكاية الجديدة… حكاية تُكتب بالأمل، لا بالخوف.

المدونات

قد يعجبك أيضاً

القيادة المجتمعية من داخل البيوت

القيادة المجتمعية من داخل البيوت

القيادة المجتمعية من داخل البيوت حين نسمع كلمة “قيادة”، يتبادر إلى أذهاننا صور القادة، الاجتماعات الرسمية، الشعارات، وربما التصريحات الإعلامية.لكن هناك قيادة أخرى، لا تُرفع فيها الشعارات، ولا تُصوَّر بالكاميرات…قيادة تنشأ في مطبخ بسيط، في حديث جانبي مع جار، في مبادرة صغيرة من دون عنوان.   إنها القيادة الهادئة.التي لا تنتظر إذنًا أو اعترافًا… بل…

من الألم الجماعي إلى الفعل الجماعي

من الألم الجماعي إلى الفعل الجماعي

من الألم الجماعي إلى الفعل الجماعي في لحظات الحرب، الغموض، والانقطاع… يبحث الإنسان عن شيء واحد: ألا يواجه كل ذلك وحده.   قد لا نملك أن نوقف القصف أو نُعيد من رحل،لكننا نملك أن نُمسك يدًا، نفتح بابًا، نعد وجبة، أو نقول: “أنا حدّك”.   الأزمات تُجرّدنا من الشعور بالسيطرة، لكنها تمنحنا مساحة نادرة لنكتشف…