من الألم الجماعي إلى الفعل الجماعي

في لحظات الحرب، الغموض، والانقطاع… يبحث الإنسان عن شيء واحد: ألا يواجه كل ذلك وحده.

 

قد لا نملك أن نوقف القصف أو نُعيد من رحل،
لكننا نملك أن نُمسك يدًا، نفتح بابًا، نعد وجبة، أو نقول: “أنا حدّك”.

 

الأزمات تُجرّدنا من الشعور بالسيطرة، لكنها تمنحنا مساحة نادرة لنكتشف أنفسنا من جديد،
ليس كأفراد فقط، بل ككائنات اجتماعية…
قلبها لا يهدأ إلا حين يشعر بأنه جزء من شيء أكبر، من نَحن.

وهنا، يظهر الفعل الجماعي.
ليس كنظرية، بل كغريزة نجاة.
كخيط خفيّ يشبك الناس ببعضهم حين تتقطع سائر الخيوط.

في قلب كل أزمة… فرصة للترميم واللقاء

في قلب كل أزمة، تولد إمكانيّة نادرة: إمكانيّة اللقاء، الترميم، وبناء روابط إنسانية جديدة.
مرّت مجتمعاتنا خلال العام الأخير بلحظات قاسية: الحرب، الخوف، القلق، العزلة، والضياع… لكن وسط هذا الركام، برزت مشاهد صغيرة، لكنها عظيمة في معناها.

 

في بلدة صغيرة، انهار سقف أحد البيوت جراء القصف. في اليوم التالي، وقف الجيران على عتبة الدار، بلا موعد مسبق، يحملون أدوات، أطعمة، وأغطية.
لم ينتظروا تعليمات ولا تصاريح… تصرفوا كجسد واحد.
هي ليست قصة بطولية، بل مشهد عاديّ في ثقافة “الجار سند”، لكنها اليوم أصبحت نادرة… ومُلهمة.

هذا النوع من التضامن لا يُخطط له، بل ينبع من جذور ثقافية وقيمية راسخة:

 

• أن نرى بعضنا.

• أن نلتقط ملاحظات التعب في وجه أحدهم.

• أن نتحرّك، لا لأن أحدًا طلب منا، بل لأن هذا ما يفعله الإنسان حين يرى الألم.

في لقاءات “جوار”، لمسنا هذا المعنى:
حتى وجبة بسيطة في بيت دافئ، يمكنها أن تبني شبكة دعم… وتشفي شعورًا بالعزلة.

ما الفرق بين ردّة الفعل والفعل الجماعي؟

في خضمّ الأزمات، غالبًا ما تتحرك المجتمعات بدافع ردّة الفعل.
تنتشر المساعدات، تُفتح البيوت، تُنظّم حملات جمع التبرعات… لكن سرعان ما تخفت هذه الحركات بعد انقضاء الحدث الطارئ.

 

ردّة الفعل مهمة، ولكنها مؤقتة.
هي كالإسعاف الأوّلي، تُنقذ وتُسكّن، لكنها لا تُعالج الأسباب الجذرية.

 

أما الفعل الجماعي، فهو قرار مستمر.
ينبع من وعي مجتمعي يرى التضامن كجزء من الثقافة اليومية، لا فقط كردّ فعل على الكارثة.

ردّة الفعل هي أن أزور جاري المنكوب مرة.

الفعل الجماعي هو أن أبدأ معه حوارًا مستمرًا، أُشارك في تخطيط الحي، وأعمل على خلق بيئة تحمينا جميعًا مستقبلًا.

ردّة الفعل تُحرّكها العاطفة.
الفعل الجماعي تقوده الرؤية والالتزام.

في “جوار”، لمسنا الفرق بين الاثنين.
ما بدأ بلقاءات طارئة لتخفيف شعور العزلة، تحوّل إلى شبكة اجتماعية ثابتة.
وهنا يكمن السر: أن نُحوّل التجاوب العفوي إلى ممارسة منتظمة، وأن نُعزّز الروابط لا في وقت الكارثة فقط، بل في كل وقت.

الجيرة: علاقة تتجاوز السكن المشترك

“الجار قبل الدار” ليست مجرّد مثل شعبي، بل مرآة لفلسفة عيش متجذّرة في ثقافتنا.
الجيرة، في معناها العميق، هي أحد أعمدة الحماية النفسية والاجتماعية… لكنها اليوم تُختزل غالبًا في تحيّة سريعة على الدرج أو ابتسامة عابرة.

في الأزمات، تُعيد الجيرة تعريف نفسها.
تصبح خط الدفاع الأول.
الجار هو من يطرق الباب ليتأكد أنك بخير، هو من يُشعل شمعة في الظلام، ويشاركك الخبز إذا قلّ.

لكن الجيرة لا تُبنى صدفة…
هي تحتاج إلى مبادرة، إلى تواصل، إلى خلق مساحة آمنة للحوار والتلاقي.

في لقاءات “جوار”، لمسنا هذا التحوّل بوضوح.
عائلات لم تكن تعرف بعضها، تحوّلت إلى شبكة مصغّرة من الداعمين،
تتبادل الطعام، العناية، والمشاعر.

وحين نفهم الجيرة بهذا العمق، لا تعود مجرّد علاقة اجتماعية،
بل تصبح منظومة حماية جماعية… تردّ الغربة، وتُرمّم هشاشة القلب.

الفعل الجماعي اليومي: كيف نبدأ؟

ليس علينا انتظار كارثة كي نختبر قوّة التضامن؛ يمكننا زرع بذوره في تفاصيل يوميّة صغيرة، فتتحوّل العادة إلى ثقافة، والثقافة إلى شبكة أمان.

جدول المبادرات
خطوة عمليّة ماذا تعني؟ مثال بسيط اليوم قبل الغد
لاحظ من حولك انتبه لعلامات التعب أو الغياب في وجوه الجيران والأصدقاء. رسالة: "لم أرَك منذ فترة، هل كلّ شيء بخير؟"
كسر حاجز المبادرة لا تنتظر دعوة. بادر أنت، ولو بلفتة رمزيّة. طبق طعام تُعلّق عليه بطاقة: "من بيت لبيت… بالهناء"
شارك المعرفة والمهارة كل واحد يملك خبرة قد يحتاجها الآخرون. دروس إسعاف أولي منزلي، جلسة دعم دراسي للأطفال في المبنى
أنشئ «دائرة دعم» صغيرة مجموعة واتساب أو لقاء شهري يجمع الجيران حول احتياجات مشتركة. التنبيه عن طوارئ أو مشاركة أدوات منزلية
وثّق وتعلّم دوّن ما نجح وما لم ينجح لتطوير المبادرات. دفتر أو ملف رقمي يضم قصص النجاح والدروس المستفادة
حوِّل اللقاء إلى عادة الاستمراريّة تحوّل الاندفاع اللحظي إلى ثقافة حيّة. اتّفاق على لقاء قهوة أسبوعي أو إفطار جماعي شهري

قاعدة ذهبية: أي مبادرة، مهما كانت صغيرة، تكتسب قوّتها من التكرار ومن إشراك الآخرين في ملكيّتها. عندما يشعر الناس أن الفكرة “فكرتهم”، تصبح الاستدامة سهلة.

 

بهذه الحركات البسيطة، يتكوّن الفعل الجماعي اليومي، ليصبح نمط حياة لا يختفي بانتهاء الأزمة بل يسبقها ويحضّر لها.

حين نلتقي، ننجو

في زمن تتسارع فيه الأزمات وتتقلّب الأحوال، يبقى الشيء الوحيد الذي يمكننا بناؤه من الداخل هو العلاقة.

الفعل الجماعي لا يحتاج إلى مؤسسة ضخمة ولا إلى موارد هائلة… يبدأ من شخص، من نية صادقة، ومن سؤال بسيط: “كيف فيني أكون حدّك؟”

نحن لا نُشفى وحدنا، ولا نُقاوم وحدنا، ولا نبني وحدنا.
نحن ننجو حين نكون معًا.
نقوى حين نرى بعضنا، ونضعف حين نتجاهل الألم الجماعي وكأنه شأن خاص.
“جوار” ليست فكرة فقط، هي طريقة للعيش.
دعوة للعودة إلى بعضنا، لنُعيد ترميم ما تهشّم فينا، لا بالخطابات… بل بالمبادرات الصغيرة التي تُشبهنا.

فلنُبادر، لنصغي، لنتشارك… لأن في اللقاء حصانة، وفي القرب حياة.

المدونات

قد يعجبك أيضاً

القيادة المجتمعية من داخل البيوت

القيادة المجتمعية من داخل البيوت

القيادة المجتمعية من داخل البيوت حين نسمع كلمة “قيادة”، يتبادر إلى أذهاننا صور القادة، الاجتماعات الرسمية، الشعارات، وربما التصريحات الإعلامية.لكن هناك قيادة أخرى، لا تُرفع فيها الشعارات، ولا تُصوَّر بالكاميرات…قيادة تنشأ في مطبخ بسيط، في حديث جانبي مع جار، في مبادرة صغيرة من دون عنوان.   إنها القيادة الهادئة.التي لا تنتظر إذنًا أو اعترافًا… بل…

من الألم الجماعي إلى الفعل الجماعي

من الألم الجماعي إلى الفعل الجماعي

من الألم الجماعي إلى الفعل الجماعي في لحظات الحرب، الغموض، والانقطاع… يبحث الإنسان عن شيء واحد: ألا يواجه كل ذلك وحده.   قد لا نملك أن نوقف القصف أو نُعيد من رحل،لكننا نملك أن نُمسك يدًا، نفتح بابًا، نعد وجبة، أو نقول: “أنا حدّك”.   الأزمات تُجرّدنا من الشعور بالسيطرة، لكنها تمنحنا مساحة نادرة لنكتشف…